رفقة طريق

 
رفقة طريق 

توقّفتِ الحافلةُ للاستراحةِ بعدَ ثلاثِ ساعاتٍ باردةٍ في ليلةٍ شتويةٍ قارصة، نزلتُ خلفَ باقي ركّابِ الحافلةِ، ربّما كنتُ الأخيرَ منهم، وسألتُ السائقَ عن زمنِ الاستراحةِ،
 "فأجابني باقتضابٍ: "ثلاثونَ دقيقة، 
"وكرّر محذّرًا: "لا تتجوّلوا في الصحراءِ 
فهو لن ينتظرَ أحدًا أو يبحثَ عن أحدٍ. أومأتُ برأسي فهمًا، ودخلتُ إلى دورةِ المياهِ للاغتسال، ومن ثمّ انتقيتُ طاولةً منفردةً محاطةً بأربعةِ مقاعدَ أقربَ إلى الأرائكِ منها إلى المقاعدِ، وطلبتُ فنجانَ قهوةٍ تركية الطراز ذات مذاق مر دون أي سكر كطعم تلك الأيام التي أمر بها علها تنسيني مرار الفقد.

تطلّعتُ إلى المكانِ من حولي بنظرةٍ خاطفة، وكان يعجُّ بركّابِ الحافلةِ وبعضِ المسافرينَ على الطريقِ بسياراتِهم الخاصةِ الذين اختاروا نفسَ المكانِ للاستراحة. وأحضرَ النادلُ اللطيفُ القهوةَ، واعتذرَ منّي بأدبٍ طالبًا النقودَ مقابلَ المشروب، فنقدتُهُ ما طلب، وجلستُ أرتشفُ قهوتي في هدوءٍ تامّ.

إذا بها تجلسُ على المقعدِ أمامي، وترمقني بعيونِها الزرقاءِ كزرقةِ سماءٍ صافيةٍ في صباحٍ مشرقٍ جميل، بوجهٍ باسمٍ مستديرٍ رقيقٍ، يوحي لكَ بالهدوءِ والطمأنينة. مرتديةً معطفًا جميلًا متناسقَ الألوان، في الواقعِ كانت بديعةَ الجمال.

التفتُّ من حولي لأعرفَ سرَّ انتقائِها لطاولتي وقرارَها بالجلوسِ معي دونَ غيري، فوجدتُ كثيرًا من الطاولاتِ الخالية، تعجّبتُ قليلًا من أمرِها، ولكن لا بأس. كنتُ مشغولَ الفكرِ ببعضِ الأمورِ التي كانت تزعجني، وليس لي أيُّ رغبةٍ في التحدّثِ مع أيِّ شخصٍ كان.

في الواقعِ، كانت رحلتي للابتعادِ عن جميعِ من أعرفُهم ويعرفونني، للاختلاءِ بنفسي بعيدًا عن كلِّ شيء، بل إنني قمتُ بضبطِ هاتفي على وضعِ عدمِ الإزعاج، وقرّرتُ عدمَ الردِّ على المكالماتِ الهاتفيةِ طوالَ رحلتي.

لا أُخفيكم سرًّا، كنتُ متعجّبًا من نظراتِها الحانية. وإذ بها فجأةً تقومُ من مكانِها، وتخطو بدلالٍ عبرَ الطاولة، وتحتلُّ المقعدَ بجانبي.

نظرتُ إليها نظرةَ تعجّب، فإذا بها تربّتُ بيدِها على يدي بحنان، وتضعُ خدَّها الأيمنَ على راحةِ يدي على مسندِ المقعد، ومن ثمّ اقتربتْ بجسدِها، ودلفتْ بكاملِ جسدِها تحتَ ذراعي.

فهمستُ لها: "هل هناك شيء؟ أأستطيعُ أن أقدّمَ لكِ طعامًا أو شرابًا؟" لكنها أجابتْ بأنّ كلَّ ما تريدهُ هو الجلوسُ في هدوءٍ بجانبي تحتَ ذراعي، ولا ترغبُ في شيء.

حسنًا، كما تريدينَ عزيزتي، ولكن عليّ المغادرةَ الآن، فالحافلةُ ستبدأُ في التحركِ، ولا أريدُ أن أظلَّ في هذا المقهى طوالَ الليلِ بحثًا عن وسيلةٍ أخرى للذهابِ إلى وجهتي، والليلةُ قارصةٌ في هذا المكانِ، عزيزتي.

بدأ سائقُ الحافلةِ يقرعُ النفيرَ عدّةَ مرّاتٍ، إشارةً منه للركّابِ بالصعودِ إلى الحافلة. قمتُ من مكاني، وذهبتُ لأصعدَ الحافلة، فإذا بها تسيرُ بجانبي بهدوءٍ وثقة، وحين وصلتُ إلى بابِ الحافلةِ وهممتُ بالصعودِ، أصرتْ إمّا أن تصعدَ معي أو أن أبقى أنا معها.

اعتذرتُ منها عدّةَ مرّاتٍ، وحاولتُ التخلّصَ منها والصعودَ إلى الحافلة، ولكنها أبتْ إلّا أن تفعلَ ما تريد، وقفزتْ قبلي إلى الحافلة.

حاولَ السائقُ عبثًا، وباقي الركّاب، أن يتخلّصوا منها أو يقنعوها بالعدولِ عن رأيها، تارةً بالتهديدِ وتارةً بالترغيب، لكنها احتمتْ بجوارِ مقعدي في مكانٍ ضيّقٍ يصعبُ الوصولُ إليه.

وفي النهايةِ، وبعدَ تململٍ وزمجرةٍ من الركّاب، اضطرَّ السائقُ العنيدُ إلى مواصلةِ السيرِ بعدَ ما يقاربُ من خمسَ عشرةَ دقيقةً أمضاها في الجدالِ مع الركّاب، ما بينَ من يحثّهُ على تركِها وإنزالِها في وجهتِنا النهائية، وحرصِه على أن يقومَ بإخراجِها من الحافلة.

وما أن بدأتِ الحافلةُ في التحركِ، حتى قفزتْ في حضني، وتمسّكتْ بي بشدّة. ربّتُّ على رأسِها مطمئنًا أنّ الأمرَ قد انتهى.

وسرنا في طريقِنا لمدةِ نصفِ ساعةٍ، وإذا بالسائقِ يُبطئُ من سرعةِ الحافلةِ، ويبدأُ في الحوقلةِ والبسملةِ، إلى أن توقّفَ تمامًا، فقد كان هناك حادثٌ ضخمٌ بين شاحنةٍ وحافلةٍ، وعددٌ من سياراتِ الإسعافِ تسدُّ الطريقَ، وكثيرٌ من الهرجِ والمرجِ.

ومن ثمّ صرخَ السائقُ: "لولا قطّتُك يا هذا، لكُنّا نحنُ مكانَ هذه الحافلة!" وكرّرتْ بعضُ السيّداتِ هذه العبارةَ، وبدأوا في تقديمِ الألبانِ المعلّبةِ والبسكويتِ لها، لكنها أبتْ أن تأكلَ أيَّ شيءٍ أو تأخذَ أيَّ شيء.

ظلّتْ قابعةً في حضني إلى أن وصلنا.

Comments

Popular